فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ} عطفٌ على أن أكونَ خلا أن صلةَ أن محكيةٌ بصيغة الأمرِ ولا ضيرَ في ذلك لأن مناطَ جوازِ وصلها بصيغ الأفعال دلالتُها على المصدر، وذلك لا يختلف بالخبرية والطلبيةِ، ووجوبُ كونِ الصلةِ خبريةً في الموصول الاسميِّ إنما هو للتوصل إلى وصف المعارفِ بالجمل وهي لا توصف إلا بالجمل الخبرية، وليس الموصولُ الحرفيُّ كذلك أي وأُمرتُ بالاستقامة في الدين والاستبدادِ فيه بأداء المأمورِ به والانتهاءِ عن المنهيِّ عنه أو باستقبال القبلةِ في الصلاة وعدمِ الالتفات إلى اليمين والشمال: {حَنِيفًا} حالٌ من الدين أو الوجه أي مائلًا عن الأديان الباطلة: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} عطفٌ على أقم داخلٌ تحت الأمرِ أي لا تكونن منهم اعتقادًا ولا عملًا وقوله عز وعلا: {وَلاَ تَدْعُ} عطف على قوله تعالى: {قُلْ يا أيها الناس} غير داخل تحت الأمر وقيل: على ما قبله من النهي والوجهُ هو الأولُ لأن ما بعده من الجمل إلى آخر الآيتين متسقةٌ لا يمكن فصلُ بعضِها عن بعض كما ترى ولا وجهَ لإدراج الكلِّ تحت الأمرِ، وهو تأكيدٌ للنهي المذكورِ وتفصيلٌ لما أجمل فيه إظهارًا لكمال العنايةِ بالأمر وكشفًا عن وجه بُطلان ما عليه المشركون أي لا تدْعُ: {مِن دُونِ الله} استقلالًا ولا اشتراكًا: {مَا لاَ يَنفَعُكَ} إذا دعوتَه بدفع مكروهٍ أو جلبِ محبوب: {وَلاَ يَضُرُّكَ} إذا تركتَه بسلب المحبوبِ دفعًا أو رفعًا أو بإيقاع المكروهِ، وتقديمُ النفعِ على الضرر غنيٌّ عن بيان السبب: {فَإِن فَعَلْتَ} أي ما نُهيتَ عنه من دعاء ما لا ينفع ولا يضر، كنّى به عنه تنويهًا لشأنه عليه السلام وتنبيهًا على رفعة مكانِه من أن يُنسَب إليه عبادةُ غير الله سبحانه ولو في ضمن الجملةِ الشرطية: {فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظالمين} جزاءٌ للشرط وجوابٌ لسؤال من يسأل عن تَبِعة ما نُهي عنه. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ} عطف كما قال غير واحد على: {أَنْ أَكُونَ} [يونس: 104] واعترض بأن: {إن} في المعطوف عليه مصدرية بلا كلام لعملها النصب والتي في جانب المعطوف لا يصح أن تكون كذلك لوقوع الأمر بعدها، وكذا لا يصح أن تكون مفسرة لعطفها على المصدرية ولأنه يلزم دخول الباء المقدرة عليها والمفسرة لا يدخل عليها ذلك، ودفع ذلك باختيار كونها مصدرية ووقوع الأمر بعدها لا يضر في ذلك، فقد نقل عن سيبويه أنه يجوز وصلها به، ولا فرق في صلة الموصول الحرفي بين الطلب والخبر لأنه إنما منع في الموصول الإسمي لأنه وضع للتوصل به إلى وصف المعارف بالجمل والجمل الطلبية لا تكون صفة، والمقصود من أن هذه يذكر بعدها ما يدل على المصدر الذي تأول به وهو يحصل بكل فعل، وكون تأويله يزيل معنى الأمر المقصود منه مدفوع بأنه يؤول كما أشرنا إليه فيما مر بالأمر بالإقامة إذ كما يؤخذ المصدر من المادة قد يؤخذ من الصيغة مع أنه لا حاجة إليه هنا لدلالة قوله تعالى: {أُمِرْتُ} [يونس: 104] عليه، وفي الفرائد أنه يجوز أن يقدر وأوحى إلى أن أقم، وتعقبه الطيبي بأن هذا سائغ إعرابًا إلا أن في ذلك العطف فائدة معنوية وهي أن: {وَأَنْ أَقِمْ} إلخ كالتفسير: {لأن أكون} [يونس: 104] إلخ على أسلوب أعجبني زيد وكرمه داخل معه في حكم المأمور فلو قدر ذلك فات غرض التفسير وتكون الجملة مستقلة معطوفة على مثلها، وفيه تأمل لجواز أن تكون هذه الجملة مفسرة للجملة المعطوفة هي عليها، وقدر أبو حيان ذلك وزعم أن: {إن} حينئذٍ يجوز أن تكون مصدرية وأن تكون مفسرة لأن في الفعل المقدر معنى القول دون حروفه وأنه على ذلك يزول قلق العطف ويكون الخطاب في: {وَجْهَكَ} في محله، ورد بأن الجملة المفسرة لا يجوز حذفها، وأما صحة وقوع المصدرية فاعلًا أو مفعولًا فليس بلازم ولا قلق في العطف الذي عناه، وأمر الخطاب سهل لأنه لملاحظة المحكي والأمر المذكور معه.
وإقامة الوجه للدين كناية عن توجيه النفس بالكلية إلى عبادته تعالى والإعراض عمن سواه، فإن من أراد أن ينظر إلى شيء نظر استقصاء يقيم وجهه في مقابلته بحيث لا يلتفت يمينًا ولا شمالًا إذ لو التفت بطلت المقابلة، والظاهر أن الوجه على هذا على ظاهره ويجوز أن يراد به الذات، والمراد اصرف ذاتك وكليتك للدين واجتهد بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح، فاللام صلة: {أَقِمِ} وقيل: الوجه على ظاهره وإقامته توجيهه للقبلة أي استقبل القبلة ولا تلتفت إلى اليمين أو الشمال، فاللام للتعليل وليس بذاك، ومثله القول بأن ذلك كناية عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين: {حَنِيفًا} أي مائلًا عن الأديان الباطلة، وهو حال إما من الوجه أو من الدين، وعلى الأول: تكون حالًا مؤكدة لأن إقامة الوجه تضمنت التوجه إلى الحق والإعراض عن الباطل، وعلى الثاني: قيل تكون حالًا منتقلة وفيه نظر، ويجوز أن يكون حالًا من الضمير في: {أَقِمِ}، {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} عطف على: {أَقِمِ} داخل تحت الأمر وفيه تأكيد له أي لا تكونن منهم اعتقادًا ولا عملًا.
{وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ الله} استقلالًا ولا اشتراكًا: {مَا لاَ يَنفَعُكَ} بنفسه إذا دعوته بدفع مكروه أو جلب محبوب: {وَلاَ يَضُرُّكَ} إذا تركته بسلب المحبوب دفعًا أو رفعًا أو بإيقاع المكروه، والجملة قيل معطوفة على جملة النهي قبلها، واختار بعض المحققين عطفها على قوله سبحانه: {قُلْ يا أهل أَيُّهَا الناس} [يونس: 104] فهي غير داخلة تحت الأمر لأن ما بعدها من الجمل إلى آخر الآيتين متسقة لا يمكن فصل بعضها عن بعض ولا وجه لإدراج الكل تحت الأمر.
وأنت تعلم أنه لو قدر فعل الإيحاء في: {وَأَنْ أَقِمْ} [يونس: 105] كما فعل أبو حيان وصاحب الفرائد لا مانع من العطف كما هو الظاهر على جملة النهي المعطوفة على الجملة الأولى وإدراج جميع المتسقات تحت الإيحاء، وقد يرجح ذلك التقدير بأنه لا يحتاج معه إلى ارتكاب خلاف الظاهر من العطف على البعيد، وقيل: لا حاجة إلى تقدير الإيحاء والعطف كما قيل والأمر السابق بمعنى الوحي كأنه قيل: وأوحى إلى أن أكون إلخ والاندراج حينئذٍ مما لا بأس به وهو كما ترى ولا أظنك تقبله: {فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظالمين} أي معدودًا في عدادهم، والفعل كناية عن الدعاء كأنه قيل: فإن دعوت ما لا ينفع ولا يضر، وكني عن ذلك على ما قيل تنويهًا لشأنه عليه الصلاة والسلام وتنبيهًا على رفعة مكانه صلى الله عليه وسلم من أن ينسب إليه عبادة غير الله تعالى ولو في ضمن الجملة الشرطية.
والكلام في فائدة نحو النهي المذكور قد مر آنفًا، وجواب الشرط على ما في النهي جملة: {فَإِنَّكَ} وخبرها أعني: {مِنَ الظالمين} وتوسطت: {إِذَا} بين الاسم والخبر مع أن رتبتها بعد الخبر رعاية للفاصلة.
وفي الكشاف أن: {إِذَا} جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر كأن سائلًا سأل عن تبعة عبادة الأوثان فجعل من الظالمين لأنه لا ظلم أعظم من الشرك: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وهذه عبارة النحويين، وفسرت كما قال الشهاب: بأن المراد أنها تدل على أن ما بعدها مسبب عن شرط محقق أو مقدر وجواب عن كلام محقق أو مقدر.
وقد ذكر الجلال السيوطي عليه الرحمة في جمع الجوامع بعد أن بين أن إذا الظرفية قد يحذف جزء الجملة التي أضيفت هي إليها أو كلها فيعوض عنه التنوين وتكسر للساكنين لا للإعراب خلافًا للأخفش وقد تفتح أن شيخه الكافيجي ألحق بها: {أَذِنَ}، ثم قال في شرحه همع الهوامع: وقد أشرت بقولي: وألحق شيخنا بها في ذلك: {أَذِنَ} إلى مسألة غريبة قل من تعرض لها؛ وذلك أني سمعت شيخنا عليه الرحمة يقول في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لخاسرون} [المؤمنون: 34] ليست: {أَذِنَ} هذه الكلمة المعهودة وإنما هي إذًا الشرطية حذفت جملتها التي يضاف إليها وعوض عنها التنوين كما في يومئذٍ وكنت أستحسن هذا جدًا وأظن أن الشيخ لا سلف له في ذلك حتى رأيت بعض المتأخرين جنح إلى ما جنح إليه الشيخ، وقد أوسعت الكلام في ذلك في حاشية المغني انتهى.
وأنت تعلم أن الآية التي ذكرها كالآية التي نحن فيها وما ذكره مما يميل إليه القلب ولا أرى فيه بأسًا ولعله أولى مما قاله صاحب الكشاف ومتبعوه فليحمل ما في الآية عليه، وكان كثيرًا ما يخطر لي ذلك إلا أني لم أكد أقدم على إثباته حتى رأيته لغيري ممن لا ينكر فضله فأثبته حامدًا لله تعالى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} موقع هذه الجملة مُعضل لأن الواو عاطفة على محالة، ووقعت بعدها (أنْ).
فالأظهر أن تكون (أنْ) مصدرية، فوقوع فعل الطلب بعدها غير مألوف لأن حق صلة (أنْ) أن تكون جملة خبرية.
قال في الكشاف: قد سوغ سيبويه أن توصف (أن) بالأمر والنهي، لأن الغرض وصل (أن) بما تكون معه في معنى المصدر، وفعلا الأمر والنهي دالان على المصدر لأنه غيرهما من الأفعال. اهـ.
يشير إلى ما في كتاب سيبويه بابٌ تكون (أنْ) فيه بمنزلة (أيْ) فالمعنى: وأمرت بإقامة وجهي للدين حنيفًا، ويكون العطف عطف مفرد على مفرد. وقيل الواو عطفتْ فعلًا مقدّرًا يدل عليه فعل (أمرت). والتقدير: وأوحي إلي، وتكون (أنْ) مفسرة للفعل المقدر، لأنه فيه معنى القول دون حروفه.
وعندي: أن أسلوب نظم الآية على هذا الوجه لم يقع إلا لمقتضًى بلاغي، فلابد من أن يكون لصيغة: {أقم وجهك} خصوصية في هذا المقام، فلنُعرض عمّا وقع في الكشاف وعن جعل الآية مثالًا لما سوغه سيبويه ولنجعل الواو متوسعًا في استعمالها بأن استعملت نائبة مَناب الفعل الذي عَطفت عليه، أي فعلَ: {أمرت} [يونس: 104] دون قصد تشريكها لمعطوفها مع المعطوف عليه بل استعملت لمجرد تكريره.
والتقديرُ: أمرت أنْ أقم وجهك فتكون (أن) تفسيرًا لما في الواو من تقدير لفظ فعل (أمرْت) لقصد حكاية اللفظ الذي أمره الله به بلفظه، وليتأتّى عطف: {ولا تكونن من المشركين} عليه.
وهذا من عطف الجمل لا من عطف المفردات، وقد سبق مثل هذا عند قوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} في سورة [العقود: 49]، وهو هنا أوْعب.
والإقامة: جعل الشيء قائمًا.
وهي هنا مستعارة لإفراد الوجه بالتوجه إلى شيء معين لا يترك وجهه ينثني إلى شيء آخر.
واللام للعلة، أي لأجل الدين، فيصير المعنى: محّض وجهك للدين لا تجعل لغير الدين شريكًا في توجهك.
وهذه التمثيلية كناية عن توجيه نفسه بأسرها لأجل ما أمره الله به من التبليغ وإرشاد الأمة وإصلاحها.
وقريب منه قوله: {أسلمت وجهي لله} في سورة [آل عمران: 20].
و: {حنيفًا} حال من: {الدين} وهو دين التوحيد، لأنه حنف أي مال عن الآلهة وتمحض لله.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {قل بل ملة إبراهيم حنيفًا} في سورة [البقرة: 135].
نهي مؤكد لمعنى الأمر الذي قبله تصريحًا بمعنى: {حنيفًا}.
وتأكيد الفعل المنهي عنه بنون التوكيد للمبالغة في النهي عنه اعتناء بالتبرّؤ من الشرك.
وقد تقدم غير مرة أن قوله: {من المشركين} ونحوَه أبلغ في الاتصاف من نحو: لا تكن مشركًا، لما فيه من التبرؤ من الطائفة ذات نحلة الإشراك.
{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)}
عطف على: {ولا تكونن من المشركين} [يونس: 105].
ولم يؤكد الفعل بنون التوكيد؛ لئلا يمنع وجودها من حذف حرف العلة بأن حذفه تخفيف وفصاحة، ولأن النهي لما اقترن بما يومئ إلى التعليل كان فيه غنية عن تأكيده لأن الموصول في قوله: {ما لا يَنفعك ولا يضرك} يومئ إلى وجه النهي عن دعائك، إذ دعاء أمثالها لا يقصده العاقل.
و: {من دون الله} اعتراض بين فعل: {تدع} ومفعوله، وهو إدماج للحث على دعائه الله.
وتفريع: {فإن فعلت} على النهيين للإشارة إلى أنه لا معذرة لمن يأتي ما نهي عنه بعد أن أكد نهيه وبينت علته، فمن فعله فقد ظلم نفسه واعتدى على حق ربه.
وأكّد الكون من الظالمين على ذلك التقدير بـ (إنّ) لزيادة التحذير، وأُتي بـ (إذن) للإشارة إلى سؤال مقدر كأن سائلًا سأل: فإن فعلت فماذا يكون؟.
وفي قوله: {من الظالمين} من تأكيدٍ مثل ما تقدم في قوله: {من المشركين} [يونس: 105] ونظائره.
والمقصود من هذا الفرض تنبيه الناس على فظاعة عظم هذا الفعل حتى لو فعله أشرف المخلوقين لكان من الظالمين، على حد قوله تعالى: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65]. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)}
وما دام الخطاب مُوجَّهًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ككل خطاب مِنَ الحقِّ سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم، إنما ينطوي على الأمر لكل مؤمن.
وإذا ما عبد المؤمن الله سبحانه فهو يستقبل أحكامه؛ ولذلك يأتي الأمر هنا بألا يلتفت وجه الإنسان المؤمن إلى غير الله تعالى، فيقول الحق سبحانه: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [يونس: 105].
فلا يلتفت في العبادة يمينًا ولا يسارًا، فما دام المؤمن يعبد الله ولا يبعد غيره، فليعلم المؤمن أن هناك أيضًا شِرْكًا خفيًا، كأن يعبد الإنسان مَنْ هم أقوى أو أغنى منه، وغير ذلك من الأشخاص التي يُفتن بها الإنسان.
ونحن عرفنا من قبل قول الحق سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء: 125].
والحنف أصله ميل في الساق، وتجد البعض من الناس حين يسيرون تظهر سيقانهم متباعدة، وأقدامهم مُلْتفَّة، هذا اعوجاج في التكوين.
أما المقصود هنا بكلمة (حنيفًا) أي: معوج عن الطريق المعوج، أي: أنه يسير باستقامة.
ولكن: لماذا يأتي مثل هذا التعبير؟
لأن الدين لا يجيء برسول جديد ومعجزة جديدة، إلا إذا كان الفساد قد عَمَّ؛ فيأتي الدين؛ ليدعو الناس إلى الميل عن هذا الفساد. وفي هذا اعتدال لسلوك الأفراد والمجتمع.
ويحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن نقع في الشرك الخفي بعد الإيمان بالله تعالى.
ويأتي الكلام عن هذا الشرك الثاني في قول الحق سبحانه: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [يونس: 105].
وهذا الشرك الثاني هو أقل مرحلة من شرك العبادة، ولكن أن تجعل لإنسان أو لأيِّ شيء مع الله عملًا.
فإن رأيت مثلًا للطبيب أو للدواء عملًا، فَقُل لنفسك: إن الطبيب هو مَنْ يصف الدواء كمعالج، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي يشفي، بدليل أن الطبيب قد يخطئ مرة، ويأمر بدواء تحدث منه مضاعفات ضارة للمريض.
وعلى المؤمن ألا يُفتنَ في أيِّ سبب من الأسباب.
ونذكر مثالًا آخر لذلك، وهو أن بلدًا من البلاد ذات الرقعة الزراعية المتسعة أعلنت في أحد الأعوام أنها زرعت مساحة كبيرة من الأراضي بالقمح بما يكفي كل سكان الكرة الأرضية، ونبتت السنابل وأينعتْ، ثم جاءتها ريح عاصف أفسدت محصول القمح، فاضطرت تلك الدولة أن تستورد قمحها من دول أخرى.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ}
والمشرك من هؤلاء لحظة أنْ عبدَ الصنم ودعاه من دون الله تعالى، فهل استجاب له؟ وحين عبده هل قال الصنم له: افعل كذا، ولا تفعل كذا؟
إن الأصنام التي اتخذها المشركون آلهة لم يكُنْ لها منهج، ولا أحد منها ينفع أو يضر، وحين يجيْ النفع لا يعرف الصنم كيف بمنعه، وحين يجيء الضُّر لا يقدر الصنم أن يدفعه.
إذن: فمَنْ يدعو من دون الله سبحانه وتعالى هو دعاء لمن لا ينفع ولا يضر.
ومَنْ يفعل ذلك يكون من الظالمين؛ لأن الظلم هو إعطاء حقًّ لغير ذي حق، سواء أكان في القمة، أو في غير القمة. اهـ.